ثورة في نفس مغترب
تأليف : ديمة اللبابيدي
العمر : 17 عام
صباح جميل أشرق على غرفته الصغيرة وسمح لنفسه أن يداعب وجهه بشعاعه اللطيف حتى يستيقظ، ولكنه لم يستجب.
لقد أمضى الليلة الماضية ساهراً طوال الليل لإنجاز عمله المتراكم وقد أنهكه التعب، فخارت قواه واستسلم للنوم.
لم يمل شعاع الشمس من مداعبته حتى استيقظ أخيراً وقد أزال عنه عناء العمل الروتيني الممل. فكل من يعيش في هذه المدينة الكبيرة الصاخبة لا يعرف سوى العمل والروتين، فقد ماتت الحياة الجميلة فيها منذ زمن، ولم يبق سوى أصوات الناس مسرعة لتحقيق مزيد من النجاح المادي في الحياة دون اهتمام لصوت الروح الذي يناديهم وقد اشتاق للحياة الهادئة.
أفاق متثاقلاً من نومه وكعادته تناول فطوره ونزل للعمل.
كان مكتبه يضج بالموظفين والمراجعين وغيرهم كثير، فمكتب رئيس تحرير المجلة لابد أن يكون مشغولاً طوال النهار إما بالصحافيين أو بالأوراق المتناثرة هنا وهناك.
مضى الوقت مسرعاً، ومضت الساعة تلو الساعة حتى حان موعد الانصراف ومازال لديه عمل كثير، فالعدد القادم من المجلة لم يكتمل بعد ولم يبق سوى ثلاث أيام لنشره.
كان عليه أن يظل ساهراً طوال الليل ليراجع المقالات الصحفية والكتابات الإبداعية ويشرف عليها جميعاً حتى تصبح جاهزة للطبع.
ٍتلك الليلة لم ينه عمله حتى الثانية عشرة. بعد أن اجتاح التعب جسده، نظر إلى ساعته ثم قرر أن ينزل لتناول عشائه.
مشى في طرقات المدينة وهو يتأمل وجوه الناس التي لا تمل العمل، وكأنهم نسوا أن الليل للراحة والسكون.
لقد قلبت حياته حتى أنهم أصبحوا كالآلات، لا يتعبون ولا يملون وقد تجمدت أحاسيسهم ولم يعد لديهم الوقت سوى للعمل والعمل والمزيد من العمل.
ذلك المساء، لم يستطع أن يمنع عقله وقلبه وجسده من التفكير بقريته البسيطة التي كانت مناقضة لهذه المدينة الصاخبة.
فتح دفتر مذكراته غارقاً في ذكريات الماضي الجميل وقد بدأ قلمه المتعب يخط ...
" آهٍ يا قريتي الجميلة كم أشتاق إليك!! .. آهٍ يا وطني كم أحن إليك! .. كم أشتاق لتلك الرائحة العطرة التي تفوح من المروج الرائعة، وتلك الزقزقة من الطيور الفرحة، وتلك الأغنيات الجميلة من أفواه الصغار والكبار.. كم أشتاق للمساتك يا أمي.. كم أشتاق لسماع صوتك الحاني.. ورؤية وجهك الجميل.. آهٍ يا أمي ما أجملك!!..
سأحكي لك يا أمي حالي الآن.. سأروي لك ما حل بي بعد أن نفيت من وطني يا أمي.
أتذكرين يا أمي ذلك اليوم اللعين حين صدر قرار بنفيي إلى دول الغرب والظلم بسبب كتاباتي؟.. تلك الكتابات التي لطالما أعجبتك يا أمي.. لقد كانت كلماتي سبباً في تعاستي لأنها تحدثت عن تعاستي وواقعي، فأنا لم أكذب حين قلت أنني أشتاق لوطني الحر، وأشتاق لطعم الحرية، لم أكذب وأنا أبث همومي على ورقي المسكين الذي أرهقته كلماتي، لم أكذب يا أمي..
آهٍ يا أمي كم هو مر طعم الغربة!.. إنه مر جداً يا أمي، فأنا أعيش في عالم غير عالمي، بين أناس ليسوا أهلي، الكل من حولي بلا قلوب.. إنهم مجرد آلات خلقوا للعمل وجمع المال. وأنا بينهم تائه غريب بكلماتي ومشاعري، لكن عزائي الوحيد هو أنني أصبحت رئيساً لتحرير مجلة شهيرة أبث من خلالها جراحاتي.. أبث تلك الكلمات الحائرة التي تولد من رحم المنفى لتذهب إلى حضن الوطن.. أبث من خلالها أشواقي التي تكاد تحرقني يوماً بعد يوم وأنا في منفاي هذا تائه غريب.
لقد غيرني المنفى يا أمي، فأصبحت اعشق وطني أكثر، وأصبحت أعشق الكلمات أكثر.
أمي.. اعتدت أن أكتب إليك دائماً حتى اعتاد قلمي على كلماتي وآهاتي ودموعي، ولكن ليس لي غيرك.
أعرف انك بعيدة جدا عني، وأعرف أنني مشتاق إليك مثلما أنت مشتاقة إلي، والآن يا أمي.. هل سأستمر في بث همومي من المنفى البعيد إلى وطني الحبيب دون فائدة؟!!.. كنت أشعر يا أمي منذ زمن أنني يجب أن أعود إلى وطني متحدياً كل الحواجز والعوائق اللعينة، كنت أشعر أن وطني من حقي وحدي وقد حان وقت الرجوع.
أنا –يا أمي- لم أمل من رسم صورة الغد الجميل.. غد مشرق بالفرح والحياة.. يحضن أحلامنا ويتسع لآمالنا.. غد عذب كمياه الغدير المنسابة برفق.. غد مشرق كالشمس يا أمي.. الشمس.. الشمس.. لقد تذكرت يا أمي، مازالت الشمس تداعبني كعادتها كل صباح، ولكن شمس بلادي أدفأ يا أمي.. كم أشتاق إليك يا أمي!.. كم أشتاق إليك يا وطني!.. كم أشتاق إليك يا حلمي.."
ختم مذكراته بتلك الكلمات التي أثارت مشاعره، فأمسى يبكي كطفل صغير أضاع شيئاً عزيزاً منه، كان يبكي وقد ملّ الحياة في المنفى، وتاه بين حياته وذكرياته، تاه بين ذاته الآن ووطنه أمس. تاه وقد ضلّ طريق العودة، ولكنه ما زال حي يتنفس كل صباح.. يتنفس وهو يكاد يختنق.. يتنفس لأن هذا ضروري كي يعيش ويتذكر الوطن.. الوطن الذي طالما حرم منه لأنه يعشقه.. حرم من هذا الوطن لأنه ابن الوطن.. سلام عليك يا أحلى وطن!!.