شتاء دافئ وذكريات لن تزول
تأليف : ديمة اللبابيدي
العمر : 17 سنة
- أمي.. أمي، استيقظي أرجوك يا أمي..
- ما بك عزيزتي سماء؟
- لا أستطيع النوم
- ما الذي يقلقك حبيبتي؟
- صوت الرعد يخيفني يا أمي.
- لا تخافي حبيبتي، سوف أبقى بجانبك وأحكي لك قصة الشتاء الجميلة
- حقاً أمي؟ .. كم أحبك
- أحبك أيضاً طفلتي المدللة.
كان هذا ما أذكره من حديثنا أنا وأمي في إحدى الليالي العاصفة حين كنت في الثامنة من عمري. كانت الريح قوية جداً، والرعد يكاد يصم آذاننا، فبيتنا الخشبي كحال باقي بيوت القرية لا يستطيع أن يحمينا من برد الشتاء وقسوته.
فكرت كثيراً.. ما بالي أكثر الحديث عن قريتي هذه الأيام؟! ..أصبحت أٍٍذكرها كل ليلة.. أذكر أشجار الكينا العالية والأزهار البرية ذات الرائحة العطرة، وبيوتها الخشبية التي تتناثر هنا وهناك دون تنسيق.
في قريتنا تلك، الصيف دافئ يحلو فيه السهر، وتكثر فيه الأغنيات الجميلة تحت ضوء القمر. للحظة تشعر أن أهلها ليس لديهم هموم أو مشاكل رغم ما تلحظه على وجوههم من علامات التعب والكبر، فالجميع سعداء يغنون ويتأملون النجوم بوجوه حالمة. أما الشتاء فهو بارد جداً، ولكن ما يخفف هذا البرد هو دفء البيوت التي تفيض بمشاعر المحبة والحنان.
لم يكن هناك أجمل من أن تتمشى في الحقول بين سنابل القمح تحت السماء الصافية والنسيم العليل، أو الركض على المروج الخضراء،ولا أنسى جلسات الجيران والأصدقاء فهي غذاء الروح في هذه الحياة.
أما عن أسرتي الصغيرة، فهي مكونة من أمي وأنا فقط، نعيش حياة يملؤها الحب والهدوء. أبي غرق في البحر منذ زمن بعيد، وأمي نذرت عمرها لتربيتي وتعليمي، ودعوني أتحدث قليلاً عن هذه الإنسانة العظيمة.
سلمى، هو اسم أمي. عندما تنظر إليها متأملاً، ترى وجهها الأبيض وعيناها الزرقاوان فيهما بريق خاص يخبئ أسراراً عميقة ودموع دفينة، ولا أنسى ضفيرتها الذهبية التي تستقر بهدوء على كتفها. عندما كنت أنظر إلى أمي، كنت أرى بعض التجاعيد في وجهها، وأذكر مرة أنني سألتها..
- أمي، كم عمرك؟
- أربعون عاماً..
- أمي.. أنت لست كبيرة جداً، ما زلت شابة جميلة.
- حقاً حبيبتي؟
- نعم يا أمي، ولكن.. لماذا لديك هذه التجاعيد؟
- إنها علامات كبر السن وبعض التعب..
- أمي؟..
- نعم عزيزتي
- من أتعبك يا أمي؟... من أرهقك حتى ظهرت هذه التجاعيد ... من يا أم..
سكتّ قبل أن أكمل بعد أن شعرت أنني أتعبت أمي أكثر بهذه الأسئلة، ولاحظت ذلك البريق ثانية في عينيها.. كانت عيناها تدمعان حقاً..
- أنا آسفة يا أمي.. أرجوك لا تبك
- لا بأس عزيزتي .. لا بأس.
بزغت خيوط الفجر.. زقزقت العصافير بسعادة .. هب النسيم العليل.. كل هذه مؤشرات بدء يوم جديد في قريتنا. أيقظتني أمي بصعوبة لأذهب إلى المدرسة، حضرت لي حقيبتي وبعض الشطائر لآخذها معي، وبعد قليل جاءت صديقتي تالة، فألقت التحية على أمي ثم مضينا سوية إلى المدرسة.
صديقتي تالة هي أفضل صديقاتي، نبقى معاً معظم النهار وندرس معاً كما أن أمي صديقة أمها لذلك فنحن كعائلة واحدة. جارتنا أم تالة لطيفة جداً، بيتها مقابل بيتنا مباشرة، كانت تأتي دائماً لتساعد أمي حين تكون تعبة، وتأتي كثيراً لتجلس معنا في الليل فتمتعنا بحديثها اللطيف.
مرت حياتنا هادئة طيلة سنوات عدة، أمي تقضي وقتها في الخياطة وترتيب المنزل، وأنا منشغلة بالدراسة.
وذات ليلة من ليالي الصيف، كنت أجلس وأمي في حديقة منزلنا المتواضعة نتبادل الحديث بين الفينة والأخرى عما حدث في يومنا من مواقف عادية. بادرت أمي بسؤالي..
- أمي..
- نعم سماء
- هل لك أن تذكريني بوالدي رحمه الله؟
- لقد كبرت الآن وأصبحت في السادسة عشرة، وكم هو جميل أن تذكري والدك يا عزيزتي..
- إذاً حدثيني قليلاً عنه يا أمي.
رفعت أمي رأسها إلى السماء وكأنها تاهت في بحر ذكرياتها، ثم بدأت بالكلام..
" عندما بلغت الثامنة عشرة، كان الجميع يخبرني أنني أصبحت ناضجة ويجب أن أتزوج، فأنا لم أعد صغيرة وعلى قدر من الجمال، لكنني كنت أرفض كل من يتقدم لخطبتي من شباب قريتنا لأنني كنت أود أن أبقى بجوار أبي المريض بعد أن فارقت أمي الحياة، لكنه أقنعني بأنه سيكون سعيداً أكثر لو تزوجت وأنجبت له أحفاداً يملئون عليه حياته بعد أن كبر.
وذات يوم تقدم والدك لخطبتي، هذا الشاب الوسيم المثقف، أفضل شباب القرية وأرفعهم أخلاقاً، فوافقت لأنني كنت أعلم أنني لن أجد أفضل منه ليشاركني حياتي ويسعدني. بعد فترة تزوجنا وانتقلنا للعيش هنا بعد أن توفي والدي، وقد كانت حياتنا سعيدة جدا وهادئة يملؤها الحب والاحترام المتبادل، جميع من في القرية يحبنا ونحن نبادلهم الود أيضاً.
بعد سنتان من زواجنا، وذات ليلة عاد والدك من عمله متعباً، فركضت نحوه مسرعة والسعادة تكتسي وجهي، استغرب كثيرا وسألني عن سبب هذه السعادة الكبيرة، فأخبرته أنني حاملاً. لا تتصوري كم كانت فرحته كبيرة لدرجة أنه نسي تعب النهار وأشرق وجهه فذهب مسرعاً ليخبر جيراننا. مرت شهور الحمل وهو يساعدني في كل شيء ولا يتعبني بأي عمل، كان دائماً يخبرني أنه يود أن أنجب فتاة تشبهني كي يتذكرني دائماً، فضحكت وأخبرته أنني أريد صبياً شقياً يملأ البيت ضجة بألعابه، وهكذا حتى أبصرت عيناكِ النور، فعمت الفرحة أرجاء المنزل والقرية بأسرها، وأقبل الجيران مهنئين خاصة جارتنا أم تالة، فقد بقيت بجانبي تساعدني وترشدني سبل العناية بك.
اقترح والدك أن نسميك " سماء"، وقال أن اسمك يحمل معني جميل، فلا شيء أعظم من السمو والرفعة، كما أنه أخبرني أن السماء الواسعة هي ما يعطي الكون جمالاً ورونقاً. "
توقفت أمي عن الكلام للحظات وقد بدأت الدموع تترقرق في عينيها، ثم تابعت بصوت حزين..
" كان الجميع يحسدنا لسعادتنا الكبيرة، فلم نعرف يوماً معنى الحزن، ولم يعكر شيء صفو مزاجنا، وكنتِ أنتِ قد بلغت عامك الأول وأصبحتِ طفلة جميلة تشبهين والدك كثيراً، لديك عيناه وبشرته التي تميل إلى الاسمرار. وذات يوم، أخبرني والدك أنه سيذهب في رحلة بحرية لنقل بعض البضائع، وإذا نجحت هذه الرحلة فإنه سيجني الكثير من المال. تمنيت له التوفيق من كل قلبي، فهو دائم السفر في البحر بسبب عمله في التجارة.
في الصباح التالي، استيقظت باكرة وجهزت له كل ما يلزمه للرحلة، وعندما جاء الوقت ليذهب طلبت منه أن أرافقه في رحلته لكنه رفض خوفاً عليكِ من البحر. وهكذا ودعته وقلبي حزين لفراقه، ووعدني بأن لا يتأخر أكثر من شهر وأوصاني أن أعتني بنفسي وبك جيداً.
كنت أعد الساعات والأيام لانتهاء هذا الشهر حتى يعود زوجي الحبيب، لكنه لم يعد حتى الآن، مر شهر ونصف وأنا ما زلت أنتظره متشوقة له. وذات يوم، سمعت الباب يدق ففرحت كثيراً معتقدة أن زوجي قد عاد، ولكني وجدت رفاقه فقط. سألتهم عنه فلم يجيبوني، شعرت بالحزن في وجوههم، فسألتهم عنه مرة أخرى وقلبي منقبض فأجابني أحد رفاقه أنه لم يعد معهم. قال لي أنه لم يعد ولن يعود أبداً.. لم أستوعب ما قاله لي لكنه أضاف أن زوجي الحبيب قد غرق في البحر وهو يحاول إنقاذ صديقه من الغرق عندما واجهتهم عاصفة هوجاء فوقع من السفينة ولقي حتفه. لم أصدق ما سمعته منهم وكم تمنيت أن يكون هذا حلماً مزعجاً لكنه لم يكن، بعد لحظات امتلأ بيتنا بأهل القرية وجاءت أم تالة مسرعة لمواساتي وكنت أنا في حالة صدمة شديدة.. أخبرتهم أنه سيعود يوماً ما لأنه وعدني بذلك.. أخبرتهم وقد بدأت أبكي أنه لم يخلف عهده أبداً.. وأنه يحبني ويحب ابنته وسيعود لأجلنا.. هو لن يتركنا وحدنا .. لكنها الحقيقة، رحل والدك عن هذه الدنيا وتركنا.
لا تتصوري كم حزنت بعد وفاته "رحمه الله" خصوصاً عندما يأتي الليل ونبقى أنا وأنتِ وحيدتين، وأنتِ ترددين كلمة "بابا" كما علمك إياها هو، عندما كنت أسمعك تقوليها كان قلبي ينفطر حزناً " .
توقفت أمي عن الكلام وقد بدأت تبكي بصوتٍ مسموع، فشعرت أنا أيضاً أن دموعي تفر من عيني غصباً عني، ولم أكن أريد أن أبكي حتى لا أزيد حزن أمي، فتابعت أنا الكلام..
" وبعد وفاة أبي، بدأتِ أنتِ بتعلم الخياطة لتوفير المال وربيتني أفضل تربية، وحرصت على تعليمي، لهذا ظهرت هذه التجاعيد في وجهك، وعيناك تبرقان دائماً من الدموع الحبيسة فيها لأنك لا تريديني أن أشعر بالحزن، ناضلتِ لأجلي يا أمي حتى كبرت، وها أنا قد أصبحت في السادسة عشرة وقد أدركت حقيقة ما فعلته لأجلي" .. عندها بدأت الدموع تنهمر من عيني ولكنني تحاملت على نفسي وتابعت..
"أمي.. أنت ما زلت جميلة رغم ما لاقيته وتحملته من أجلي.. أنت جميلة بروحك العذبة ونفسك الطيبة ووفائك لذكرى زوجك .. أمي.. أنت إنسانة عظيمة.. أنا أحبك يا أمي.. أرجوكِ لا تبكِ".
كانت تلك ليلة طويلة قضيتها في حضن أمي، ويا لها من ليلة جميلة.
مر ذلك الأسبوع وأنا أفكر كل يوم بأبي وأمي.. أفكر.. ما الذي جعل أمي تتحمل كل ذلك؟ وكيف تستطيع أن ترعاني بعناية هكذا؟ ... أدركت أنها الأمومة، وأنه الحب الصادق الذي يسكن قلبها.. ويا له من قلب رحيم حنون.
الآن أصبحت في الثامنة عشرة، أنهيت تعليمي المدرسي وسجلت للجامعة، لكن علامات الكبر بدأت تظهر على أمي، وقد أصيبت بضعف شديد في جسدها. حرصت دائماً على راحتها ومساعدتها حتى لا تتعب، ولكنها كانت ترفض خوفاً من أن أقصر في دراستي. في البداية كنت أحزن لأنها ترفض مساعدتي لكنني أدركت بعد ذلك أنها لا تريدني أن أراها ضعيفة، فأنا لم أتعود منها ذلك.
وذات يوم.. عدت من الجامعة في يوم عطلتي فوجدت أمي مريضة جداً، لم أرها هكذا يوماً فأصابني الحزن عليها. كانت جارتنا تحضر لها أعشاباً لتشربها حتى تخفف آلامها، ولم أعد للجامعة حتى أبقها بجوارها. حالتها كانت تسوء كل يوم، وقد بدأت الوساوس تساورني ولا أستطيع طردها.. أنا لا أريد أن أفقد أمي الغالية.. كنت أكره التفكير في هذا الموضوع وأسرع للجلوس بجانبها حتى لا تغيب عن ناظري، وأحدثها دائماً حتى لا تشعر بضعفها، وهي سعيدة.
ولكن، حمداً لله أن أمي قد استعادت عافيتها من جديد، فالطبيب قد وصف لها دواء جيداً، وجسمها كان بحاجة للراحة، لذلك فقد استأجرت بيتاً في المدينة ليكون قريباً من الجامعة وسكنت فيه برفقة أمي التي أقنعتها بصعوبة شديدة ترك القرية التي لم نعد نزورها كثيراً لضعف أمي وانشغالي بالعمل والدراسة.
وبعد سنة من تخرجي تزوجت بشاب من المدينة، مثقف ولديه عطف والدي وقلب أمي الكبير، وأصبح لدينا ثلاثة أطفال، سالم.. رؤى.. وسلمى. أسميت الصغيرة سلمى لأنها تشبه أمي كثيراً بعيناها الزرقاوان وشعرها الذهبي. كانت أمي سعيدة جداً وهي ترى أحفادها يلعبون حولها، وزوجي المخلص الذي أحب أمي كوالدته.
في تلك الأيام بدأت أفهم شعور أمي بحبها الكبير لي والوفاء لزوجها.
ذات يوم عاد أبنائي من المدرسة بعد يوم دراسي طويل وبارد جعلهم يستسلمون للتعب، وطلبت مني صغيرتي سلمى أن أروي لها قصة كي تنام بسرعة. صمت للحظات ثم قلت لها:" هل تعرفين قصة الشتاء الذي يأتي ليسقي الأرض؟"، ضحكت ابنتي وقالت لي: لا يا أمي.. احكها لي". ترقرقت في عيني دمعة حبستها بصعوبة وبدأت أحكي لها:" في إحدى الليالي الباردة، كان صوت الرعد قوياً، والمطر بدأ بالنزول بشدة.. خافت الطفلة الصغيرة من صوت المطر، فحضنتها أمها وأخبرتها أن هذا المطر ينزله الله ليسقي الأرض، فتكبر الأشجار، وتنمو الأزهار، وتمتلئ البحيرات". استغرقت سلمى وإخوتها في النوم قبل أن أنهي القصة، فأكملت لنفسي:" لم تعد تشعر الطفلة بالخوف .. لأن صوت أمها كان يذيب خوفها.. ولمساتها الحانية تملأ قلبها بالطمأنينة" ... ما أجمل الأمهات!!.