أمـــــــــــل لبنــــــان
في بلدة "قانا" الجميلة، تقطن عائلات لبنانية بسيطة وتعيش في هناء وسعادة، لكن هذه السعادة لم تدم طويلاً حين استيقظوا ذات يوم على مجزرة بشعة أخذت الأهل والأصحاب والأحباب، وكتبت عنها الصحف والكتب، وما هي إلا سنوات قليلة مضت حتى عادت وتكررت هذه المجزرة بصورة وحشية، ومن هناك بدأت الحكاية..
- أمي .. أين أنت؟
- هنا صغيرتي، ما بك؟
- صوت القصف عالٍ يا أمي وأنا لا أستطيع النوم
- لا تقلقي عزيزتي، سيتوقف بعد قليل، هيا نامي الآن
- تصبحين على خير يا أمي
- تصبحين على خير حلوتي
نامت "أمل" وجسمها يرتجف خوفاً من أصوات القذائف في الخارج، فالبلدة كلها متوترة بعد الحرب الأخيرة على لبنان.
"أم نضال" التي جلست تربت على كتف صغيرتها "أمل" لم يغمض لها جفن ولم يهدأ لها بال وهي تسمع أزيز الطائرات الصهيونية وتنظر إلى صورة زوجها وابنها "نضال" اللذان استشهدا في مجزرة قانا الأولى. كانت تنظر إلى الصورة خائفة أن تضع صورة حبيب آخر بجانبها .. حاولت طرد هذه الهواجس من عقلها ولكنها لم تستطع، حتى أنقذها صوت أذان الفجر فانطلقت تصلي وتدعو ربها أن يفرج كربهم.
أفاقت "أمل" بعد ليلة صعبة وجلست لتناول الفطور مع والدتها، وطلبت منها أن تأذن لها بالخروج للعب مع صديقاتها، فوافقت شرط أن تعود بسرعة إذا سمعت أصوات الطائرات مجدداً.
انطلقت "أمل" إلى بيت صديقتها "حلا" ثم إلى "سمر" وساروا كعادتهن يتجولن في شوارع البلدة، يحادثن هذا ويداعبن ذاك، وعلى وجوههن ضحكات بريئة لم تمحها الحرب بعد.
- هل سمعتن القصف الليلة الماضية؟
- نعم، لقد كان الصوت عالياً ولم أستطع النوم
- لقد خفت كثيراً لكن والدي ظل جانبي طوال الليل
- أنا لم أخف لأن أمي وأبي كانا بجانبي يحتضناني
- أنت محظوظة يا "حلا" لأن لديك أسرة، أما أنا فأبي وأخي استشهدوا ولم يبق لدي سوى أمي الحبيبة، وكذلك "سمر" فقد فقدت والدتها أيضاً.
- هذا صحيح .. أتمنى أن تبقى عائلتي بخير
- أنا أحب والدي ولا أحب أن يمسه سوء، فهو يفعل كل شيء لأجلي
- لقد كنت صغيرة عندما استشهد أبي وأخي، ولكني أحدثهما كل يوم في الصورة وأخبرهما عن أخباري وأخبار أمي
- أتعلمن؟ .. عندما أكبر سأنجب أطفالاً كثيرين ليدافعوا عن لبنان
- ما زلت صغيرة يا "حلا" وأمامك وقت طويل لذلك
- هذا صحيح يا "سمر"، يجب أن ننهي دراستنا ونكبر ثم نتزوج وننجب أطفال
- هذا إن بقينا أحياء!!
- لماذا تقولين ذلك يا "سمر" ؟!
- لأن أمي كبرت وتزوجت ثم استشهدت وتركتني مع أبي، وربما سنموت نحن مثلها
- أنا لا أريد أن أموت الآن .. أريد أن أكبر
- لسنا من يحدد ذلك يا "حلا" ، وقد أخبرتني أمي أن من يستشهد يذهب إلى الجنة مثل أبي وأخي، والجنة جميلة جداً.
- ولكن ليس الآن .. أريد أن أكبر
- حسنا يا "حلا" يجب أن نعود الآن لمنازلنا، إني أسمع صوت الطائرات من جديد
- نعم .. إلى اللقاء
- إلى اللقاء.
عادت "أمل" إلى المنزل وبدأت تتجاذب أطراف الحديث مع والدتها، فأخبرتها عما تحدثت به وصديقاتها، وعن الجنة الجميلة، وأن حلا لا تريد أن تموت إلا بعد أن تكبر وتتزوج.
كانت الأم تصغي إلى طفلتها وهي تحاول حبس دموعها في عينيها، لكنها لم تستطع. فقد هربت منها دون استئذان، لأنها لم تكن تريد لابنتها أن تتحدث عن الموت وتخاف منه منذ الآن، ولأنها تعرف جيداً ما معنى فقد الأحباء.
في المساء، اجتمع الجيران في بيت "أبو سمر" الذي بدأ الحديث عن حياتهم الصعبة، وما آلت إليه أوضاعهم بعد الحرب، أما الصغار فقد كانوا يلعبوا ويسترقوا السمع إلى أحاديث الكبار.
كان كل واحد من أهل البلدة لديه ما يثقل صدره من متاعب وهموم، فهذا أرهقه العمل طوال النهار وذاك جسده يؤلمه جراء إصابته أثناء الحرب، وآخر يتحسر على الماضي الجميل فتسمع أصواتهم يتنهدون مشتاقين لتلك الأيام، وهكذا ما زالوا يتحدثون حتى أرهقهم الحديث وما بيدهم حيلة.
تفرق الجيران على أمل أن يلتقوا مجدداً بخير، ولكن كانت هذه الليلة مختلفة عن سابقاتها، فالقصف مكثف على "قانا" والمدن المجاورة، والطائرات لا تفارق الجو، وأصوات بكاء الأطفال مذعورين يقطع قلوب أهلهم. وبالفعل فقد بدأت الغارات العشوائية بالسقوط دون أن تفرق بين بيت أو مسجد أو مستشفى، فكل ما تسمعه الآن هو صرخات وآهات حتى إنك ربما لن تسمعها لقوة أصوات الانفجارات، فتبدد أمل اللقاء.
مضت الليلة ثقيلة حتى شعر أهل البلدة أنها ربما لن تنتهي، ولكن نور الصباح كشف عما خبأه ظلام الليل.
صباح دموي هلع فيه الناس يفتشون عن بقايا منازلهم التي أصبحت حجارة متراكمة، ويحاولون انتشال أولادهم الموجودين تحت هذا الركام. فها هو والد "سمر" يفتش عن طفلته بين الحجارة مذعورا ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة وهو يتذكر كيف انتشل زوجته ميتة قبل ذلك، وكأن المشهد يتكرر ثانية، لكن "سمر" كانت على قيد الحياة تحتضن صورة والدتها وقد غطتها دماؤها، وكم كان سعيداً لأنه لم يفقد مهجة فؤاده وشمعة أيامه.
أما أهل "حلا" لا زالوا يبحثون عنها بين الركام دون أن يجدوا لها أثرا، فقد وجدوا والدها ميتاً، وأمها قد أسكتها منظر زوجها الميت وبيتها المهدم وابنتها الضائعة.
وإذا نظرت ناحية بيت "أم نضال" وجدتها تجري مذعورة تفتش عن صغيرتها "أمل" ودماؤها تنزف دون أن تشعر هي بإصابتها. لقد كان كل همها أن تطمئن على طفلتها التي وجدتها فاقدة الوعي وقد غطت الدماء وجهها الصغير، فانهمرت دموعها تختلط بدماء ابنتها حتى وصلت المستشفى المليء بالأطفال والنساء والرجال، فهذا يئن وذاك يصرخ .. هذا يبقى حياً وآخر يموت .. وهكذا كان أهل البلدة ما بين آهاتٍ ودموع.
بعد حوالي ساعتين، كان الأطباء قد انتهوا من تضميد جراح الأم وجراح "أمل"، لكن الصغيرة كانت تتألم بشدة لأن إصابتها برأسها كانت بالغة، فالضماد يخفي وجهها بالكامل، وأمها تنظر إليها وهي لا تدري أتحزن لحالها أم تفرح لأنها ما زالت حية.
بعد لحظات أفاقت "أمل" وبدأت تحدث والدتها المتعبة..
_ ماما.. ماما .. أين أنت؟
- هنا صغيرتي بجانبك .. حمداً لله أنك أفقتِ
- ماما .. أزيلي الضماد عن رأسي
- لا حبيبتي، بعد قليل سيأتي الطبيب ويزيله. أما زلتِ تتألمين؟
- نعم يا أمي .. رأسي يؤلمني كثيراً
- سلامتك صغيرتي .. سلامتك
- أمي..
- نعم صغيرتي
- أين سمر وحلا؟
- "سمر" مع والدها في غرفة أخرى في المشفى وهما بخير، أما "حلا" ..
- ما بها "حلا" يا أمي؟
احتارت الأم أتخبر ابنتها بأن "حلا" استشهدت وهي بهذه الحال .. وهل ستتحمل الخبر؟ .. ولكن هذه الحيرة لم تطل حين قالت "أمل" :
- حسناً يا أمي.. أعتقد أن مكروهاً قد حدث لها، لذلك لا تريدين أن تتكلمي.. أنا أشعر بذلك.. أنتِ لم تخفِ عني شيئاً قبل ذلك إلا إذا كان يزعجني، أرجوك يا أمي أن تخبريني ماذا حصل لها ..
- ليس الآن صغيرتي .. ليس الآن
- أرجوك أمي
- صغيرتي .. لقد استشهدت "حلا" ..
- استشهدت؟! .. عرفت ذلك
- ابنتي ..
- نعم يا أمي استشهدت مثل أبي وأخي "نضال" .. لكنها قالت أنها لا تريد أن تموت صغيرة.
- هذه إرادة الله حبيبتي .. أعلم أنك حزينة بشأنها ولكن لندعو لها بالرحمة ..
- مسكينة "حلا" يا أمي .. لن تكبر مثلنا ..
- كفاك الآن صغيرتي.. الطبيب سيزيل لك الضماد الآن.
وبعد لحظات ..
- أمي .. أزيلي بقية الضماد حتى أراكِ..
- لقد أزيلت كلها ..
- لكنى لا أرى شيئاً .. أنا لا أراكِ يا أمي
وعندها لم تستطع "أم نضال" أن تحبس دموعها، فبدأت تبكي بصوتٍ مسموع جعل "أمل" تبكي أيضا، فالأم قد علمت أن طفلتها لن تتمكن من الرؤية بعد الآن بسبب إصابتها، وصغيرتها ترهقها بكلماتها ..
- ماما.. ألن أراكِ يا ماما؟
- آسفة حبيبتي ولكن هذا غير ممكن، إصابتك بالغة وقد تأذت عيناكِ بشدة
- آه يا أمي .. ألن أرى وجهك الجميل بعد الآن؟ .. ألن أرى صورة أبي وأخي؟ .. أمي ... ردّي عليّ..
- صغيرتي كفى أرجوكِ
- لقد سرقوا نور عيني يا أمي .. سرقوه مثلما سرقوا أبي وأخي وحلا وأم سمر .. لقد سرقوا "قانا" يا أمي .. سرقوا لبنان ..
- حسبنا الله ونعم الوكيل
- أمي .. أنا أعرف لماذا حرموني الرؤية
- حبيبتي ..
- لأنهم يخافون أن أراهم وأقتلهم عندما أكبر، هم يخافون منا يا أمي .. يخافون من "حلا" لأنها قالت أنها ستجعل أولادها يدافعون عن لبنان .. ولكنهم يا أمي لم يأخذوا أذناي .. مازلت أستطيع أن أسمع كلماتك .. وأسمع أغنيات الوطن .. ما زال لي فاه سينطق بحب الوطن .. وما زالت لي ذراع ستعزف أغنية الحرية المنشودة على وتر الزمان .. ولسوف أكبر يا أمي وأتعلم لأحقق أحلام "حلا" وأحلام أطفال وطني، وسأعيد حرية لبنان يا أمي .. سأعيدها..
تأليف : ديمة زهير اللبابيدي
العمر : 17عام