تضحية
بين سلاسل الجبال الممتدة والأشجار الملتفة الكثيفة.. هناك المدينة خاوية على عروشها..بيوت مهدمة ومزارع محرّقة وطرقات مخربة.. كل شيء هنا مُدمر..فهذه المدينة كانت شاهداً على حرب جرت فيها قبل شهرين بين أهلها وغزاة محتلين..من بين البيوت المهدمة..بيت صغير سلم من التدمير غطته الثلوج ككل ما حوله من جبال وأشجار وبيوت مهدمة..
داخل البيت عشرون رجلاً من الأشداء الأقوياء..كانوا من مختلف الجنسيات تجمعهم رابطة الدين فقط..من بينهم بعض أبناء البلد..
يتناهى إلى أسماع هؤلاء الأبطال صوت محرك طائرة..يستطلع أحدهم من النافذة..ويرى طائرة للغزاة تجوب المكان للتفتيش..
بدا لهم أنها تعلم بوجودهم..وتنتظر خروجهم للقضاء عليهم..
قائد المجموعة..وقد أهمه الأمر يقول لمن حوله:"أشيروا عليّ ماذا نفعل"
يهتف أحدهم بروح ملؤها حب الشهادة وكان شاباً متحمساً:"لنواجههم بأسلحتنا وليكن مايكن".
يجيبه القائد وكأن الرأي لم يعجبه:"ولكنّ قد نذهب جميعاً ولا يبقى منا أحد..فنحن لانعلم كم عددهم وكيف عتادهم..هل من رأي آخر".
شيخ صامت طول الوقت ينطق في حكمة متجلية:"إنهم يجوبون المنطقة بحثاً عنّا..ولن يطلقوا النار إلا على هدف واضح..وهم لايعلمون كم عددنا وأين نحن..فلذلك لتخرج مجموعة منّا تضحي بنفسها من آجل البقية"
القائد في إعجاب بما قال الشيخ:"نِعم الرأي ما تراه أيها الشيخ الجليل..فمن يريد التضحية؟من على استعداد للشهادة؟من منكم في شوق إلى الحور؟..من يريد أن يخرج؟.."
سعد الشاب القادم من بعيد.. يعيش صراعاً داخلياً بعدما سمع هذا الكلام.. يعيش صراعاً بين حبين..حبٌ قديم لشيءٍ قديم محسوس مشاهد..وحب لشيء مؤجل لم يجربه فقط سمع عنه.. صراعٌ بين حب الدنيا وحب الحور.. أوصاف الحور تتسارع تعرض في ذهنه.. ويقرر أخيراً أن يقدم الجمال المؤجل..على الجمال القديم..قرر أن يضحي بنفسه من أجل إخوانه..وهتف قائلاً:"أنا أريد التضحية.."
انفجرت أسارير القائد عندما سمع ما قاله سعد وقال مستحثاً المزيد من الرجال:"هيا..كونوا مثل أخيكم..الحور بانتظاركم.."
توأم من أهل البلد.. يرفعان يديهما يريدان التضحية..
يوافق القائد..ويقول:"بقي اثنان من يريد الشهادة؟؟"..يرفع شاب قادم من بعيد يده يريد التضحية..يعقب ذلك..الشيخ صاحب الاقتراح يرفع يده يطلب المشاركة..
تخرج المجموعة مودعةً بالدموع والقبلات..تخرج موقنةً بالموت مرحبةً به مشتاقةً إليه.. تخرج تسير سيرَ الواثقين وتمشي مشية المصدقين.. تمشي لتقابل الجمال بعينه.. مودعة جمالاً زائلاً..ذاهبة إلى جمال دائم..
يخرج الرجال ويسيرون مبتعدين عن البيت الذي خرجوا منه قبل قليل.. يسيرون دون توقف..حتى رأوا أنهم قد ابتعدوا مسافة كافية.. حينها جمعوا حطباً وأضرموا فيه النار..
النار تكون دليلاً في الليل على وجود أحدِ ما.. ترى طائرات المراقبة النار وتقترب منها..وتظل تدور حولها إلى أن رأت رجالاً جلوساً عندها..
صوت إطلاق صورايخ.. ونار تشتعل تحيل الليل نهاراً والأجساد فحماً..
أشرقت الشمس معلنة قدوم الصباح..
المجاهدون داخل البيت يراقبون السماء ويتأكد لديهم أنها خالية من الطائرات.. يخرج أحدهم جهة النار التي بالأمس..يتبعه البقية..
وهناك شاهدوا جثثاً متفحمة..وجوه أصحابها مبتسمة مشرقة..وأيديهم وقد تشكلت كمن ينطق بالشهادة..
دفنوهم دون كفن.. ودموعهم تذرف كالسيل من مآقيهم..